الجمهورية
كتب طوني عيسى: في مفهوم التوازنات الطوائفية في لبنان، ثمة من يعتقد أن انكفاء السعوديين جعل السنة في وضعية اليتامى مقابل وضعية الأمومة الفائقة التي يعيشها الشيعة تحت الكنف الإيراني. وهذا ما شجع الرئيس رجب طيب أردوغان على محاولة أن تكون تركيا بديلاً للسعودية في لبنان، وأن تؤسس فيه قاعدة لمصالحها على صفة المتوسط الشرقية
ولكن، هل الظروف السياسية ملائمة لتحقيق هذا الهدف؟ وهل قادة السنة مستعدون لمغادرة العباءة السعودية والانضواء تحت الجلباب التركي؟
منذ انتهاء العهد العثمانين بقيت الزعامة السنية في العالم العربي معقودة للعرب أنفسهم، وتوزعت عموماً بين العرش السعودي ومصر جمال عبد الناصر، وبدرجة أدنى عراق صدام حسين وفتح ياسر عرفات
ولكن خصوصاً منذ انطلاق عهد النفط، حسمت المملكة العربية السعودية حضورها لسببين: الهالة المعنوية الدينية، والوزن السياسي والمالي الراجح بشدة. حسمت تفردها برعاية الحالية السنية في لبنان، وبلغ ذلك ذروته مع وصول رجل السعودية القوي الرئيس رفيق الحريري إلى السلطة بعد مشاركته الميدانية في ورشة اتفاق الطائف
اليوم، بعد حروب الربيع العربي وانهياراته، ومع اتساع الدور الإيراني إقليمياً، ظهرت تبدلات في المعادلات السنية على مستوى الشرق الأوسط، وللمرة الأولى، يحاول الأتراك الاستفادة من وضعية الإرباك العربي لتوسيع دائرة نفوذهم في الرقعة العربية وحوض المتوسط عموماً، ويطمح الرئيس رجب طيب أردوغان إلى استعادة نفوذ السلطنة، ضمن حدود الممكن طبعاً
جاء الانكفاء السعودي الأخير عن لبنان ليمنح الأتراك فرصة التجربة، ويعتقد متابعون أن النهج التركي الجديد سيكون أكثر واقعية في التعاطي مع الأصدقاء وأقل صدامية في التعاطي مع الخصوم، وسيعتمد أردوغان السياسة الناعمة والذكية للتغلغل في المنطقة العربية واستقطاب الجماعات السنية العربية
الأتراك يتحركون اليوم في شكل لولبي على خطوط روسيا – الإمارات – إيران. وقد رمموا علاقاتهم تريجياً مع الدول الثلاث ونسجوا خطوط تنسيق معها. وعلى رغم تحالفهم مع قطر، فإنهم يبذلون الجهد لعدم استثارة السعودية، بل إن الأتراك والقطريين يتولون معاً تبريد الأزمة الناشئة بين لبنان والسعودية. وهذا أمر لافت، وعلى الارجح بهذا الدور يطمح الأتراك إلى كسب ثقة السعوديين وتهدئة هواجسهم، وتالياً تحقيق الخروقات في معاقل السنة في لبنان بنحو هادئ
ولكن، ثمة خبراء يشككون في قدرة تركيا على تحقيق خروقات واسعة في لبنان وداخل هيكليات الطائفة السنية فيه، بحيث تتمكن من وراثة السعودية في رعاية التوازنات اللبنانية من جهة، ورعاية الحالة السنية من جهة أخرى. وفي هذا المجال، يطرح هؤلاء الخبراء 3 ملاحظات
أولاً، ليس متوقعاً أن يطول انكفاء السعودية في لبنان، وعلى الأرجح يريد السعوديون توجيه إشارات شديدة اللهجة إلى السلطة اللبنانية والقوى السياسية المحلية لدفعها إلى النأي بنفسها عن نهج حزب الله، خصوصاً عشية عام سيكون مفصلياً في رسم توازنات النفوذ، ومع انطلاق الجولة الجديدة من المفاوضات الأميركية الإيرانية. وبرى هؤلاء الخبراء، أن السعودية تعرف جيداً أن الفراغ الذي تتركه في لبنان ستحتله إيران وسيتيح لتركيا الدخول كمنافس لها داخل الطائفة السنية، ولذلك، تقوم الرياض برصد دقيق للوضع اللبناني وستكون جاهزة للعودة إلى التدخل في أي لحظة
ثانياً، بأي شكل وباي ثمن، سيرفض الفرنسيون دخول تركيا في شبكة المشاريع التي يريد لبنان إطلاقها لاستعادة النهوض، والتي يشارك فيها الفرنسيون بقوة، سواء من خلال رعايتهم مؤتمر سيدر وتحريك المساعدات المرصودة أو من خلال تلزيمات النفط والغاز والكهرباء وإعادة اعمار المرفأ. وعلى الأرجح، أن أي ضغط تركي سيدفع الفرنسيين إلى الرد بسحب أيديهم، وهذا ما لا يتحمله لبنان حالياً. وعموماً، علاقة أردوغان بالرئيس الأميركي بايدن لا تسمح له بالتمادي في المناورات الإقليمية
ثالثاً، ليس مرجحاً أن تقوم مرجعيات الطائفة السنية بالخروج من الرعاية السعودية إلى الحضن التركي، وفي الدرجة الأولى، لا يعول الاتراك على أن المرجعية الدينية، دار الفتوى، ستقوم بهذا الانقلاب، ولا حتى القوى السياسية من الرئيس سعد الحريري إلى الرئيس نجيب ميقاتي إلى سائر أركان نادي رؤساء الحكومات، ولو أن الحريري وميقاتي يقيمات شبكة علاقات استثمارية وسياسية جيدة مع أنقرة
وسط كل ذلك، ثمة دور مهم لإيران في تكوين المعادلة، فهل يفضل الإيرانيون التنسيق مع تركيا في لبنان، ضمن عملية تقاسم نفوذ في المنطقة بين الإمبراطورية الفارسية الجديدة والإمبراطورية العثمانية الجديدة؟ أم يراهنون على الخصم العربي الكلاسيكي الذين اعتادوا التعاطي معه تاريخياً، أي السعودية؟ أم سيختارون التكتكة مع الأتراك والسعوديين في آن معاً وينتظرون من يقدم إليهم أوفر مقدرات من المكاسب؟
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.